إذا
وضعنا أمامك سلم علامات من 1 إلى 10، فكم ستمنح نفسك؟ على الأرجح 7 أو 8، أليس
كذلك؟ لا عليك، فلست الوحيد الذي يُقَيم نفسه عالياً، بل معظم الناس يفعلون ذلك.
فعلى الرغم من أن أغلب الناس لا يستحقون علامة أكبر من المتوسط لتقييم صفة معينة،
فإنهم يعتقدون أنهم أفضل من جُل الناس الآخرين في ميادين عديدة، بدءاً من السلوك
الخيري والإحسان، ووصولاً إلى جودة الأداء في العمل. ويُصطلح على هذه الظاهرة في علم
النفس “التفوق المتوهَم”. وهي ظاهرة تتأثر بالبيئة الثقافية لكل شخص أو مجموعة
أشخاص، وتُتيح للناس استدامة صحتهم الذهنية ولياقتهم العقلية، علماً أن أكثر الناس
ميلاً إلى تضخيم ذواتهم هم الأقل كفاءة ومهارة، بشهادة نتائج دراسات راكمها باحثون
طوال العقود الماضية.
يقول
العالم النفساني من جامعة كورنيل الأميركية الدكتور ديفيس دانينج إن مبالغة الناس في
تقييم ذواتهم وتصوير أنفسهم بأنهم أفضل الناس هي ظاهرة موجودة في كل المجتمعات،
لدرجة أن علماء النفس يُفاجأون إذا حدث أن أظهرت إحدى دراساتهم نسبية هذه الظاهرة،
أو عدم اتساعها على نطاق واسع في كل البيئات الاجتماعية. ما جعل التفوق المتوهم
بمثابة الأصل، وتبخيس الذات هو الاستثناء.
وتُلازم
هذه الظاهرة المجتمعات البشرية لأسباب عديدة.
ويرى دانينج أن بعض الناس يطغى عليهم الأدب واللباقة،
فيمتنعون عن البوح صدقاً وحقيقة بما يعتقدونه عن أنفسهم، وآخرون غير أكفاء
ويفتقدون إلى مهارات تقييم قدراتهم بدقة، فيتحصنون بتلك التوهمات الذاتية التي
تُسهم في حماية صحتهم العقلية.
منذ
أن بدأت دراسات علم النفس تسبُر أغوار هذا الموضوع، كان الباحثون يلاحظون أن
السواد الأعظم من الناس يمنحون لأنفسهم أفضل العلامات والدرجات عند مطالبتهم
بتقييم قدراتهم وصفاتهم. ويقول دانينج إنه على الرغم من كون معظم الناس ماهرين إلى
حد ما في تقييم أنفسهم، إلا أنهم يبالغون كثيراً في تثمين قدراتهم الذاتية.
وفي
دراسات تقييم الذات، يجد الباحثون دائماً أن معظم الناس يبالغون في تثمين قدراتهم
ومستويات ذكائهم. ففي دراسة أُجريت سنة 1977 على سبيل المثال، منح 94% من
الأساتذة لأنفسهم علامات أكثر من المعدل مقارنة بزملائهم. وفي دراسة أخرى، قيم 32%
من موظفي شركة برمجيات أنفسهم بأنهم أفضل من 20 من زملائهم. وقد وجد الدكتور
دانينج من خلال الدراسات التي أجراها طوال عقود بأن الناس يبالغون في تقييم أنفسهم
حتى على مستوى الأعمال الخيرية والأموال التي ينوون التبرع بها مستقبلاً، لكنه وجد
بالمقابل أن افتراضاتهم وتخميناتهم بشأن سخاء زملائهم وأقرانهم كانت في الغالب
صحيحة ودقيقة.
تعريفات
فضفاضة
وجد العالم النفساني في جامعة
كوينزلاند بأستراليا مارك هورسويل أن السائقين يميلون دوماً إلى المبالغة في تقييم
أنفسهم، فتجد كل واحد منهم يرى أنه أفضل شخص في قيادة مركبته، حتى عندما يمر
بتجربة تكشف له أن نوعية سياقته تعرضه لمخاطر لا يواجهها إلا الأقل مهارة. وبحسب
الدكتور دانينج، فإن معظم الصفات الإيجابية، من قبيل المهارة العالية في قيادة المركبات،
تكون موضوع تعريفات فضفاضة تجعل كل شخص يحسَب نفسه قائداً ماهراً يخيط زي التمكن
من السياقة على مقاسه. هذا ناهيك عن كون الناس لا يتلقون عادة وللأسف تغذيات راجعة
صادقة من الآخرين، بل إن غالبيتها تكون أقرب إلى المجاملات الزائفة منها إلى
الشهادات النابعة من القلب، ما يجعل ذلك الوهم الذي ينسجونه حول تفوقهم في مهارة
ما يتضخم أكثر فأكثر.
وفي
هذا الصدد، يقول دانينج “عندما يلتقيك الناس وجهاً لوجه، فإنهم يقولون لك روايات
عن نفسك مختلفة عما يقولونه عنك في غيابك”.
وبعد
سلسلة الدراسات التي أجراها حول هذا الموضوع، تبين للدكتور دانينج أن الأشخاص
الأقل كفاءة وخبرة هم أكثر الناس ميلاً لتضخيم قدراتهم والمبالغة في تقييمها، في
حين أن معظم المتميزين يميلون إلى التقليل من شأن إنجازاتهم، لأنها تبدو في أعينهم
أشياء بسيطة لم تكلفهم إلا جهداً قليلاً، ويفترضون بشكل بدهي أن غيرهم قادرون على
القيام بمثلها، والحال أن هؤلاء الآخرين يفتقرون إلى القدرة على إنجاز مثل أعمالهم
أو أدائها بنفس الإتقان والإبداع.
مناعة
خاصة
وجد
الدكتور هورسويل أن هناك فئة من الناس لديها مناعة ضد تضخيم الذات، وهذه الفئة
تشمل المكتئبين والقلقين والمتوترين. فهؤلاء يميلون إلى عدم المبالغة في تثمين
قدراتهم ومهاراتهم. وكلما زادت حدة اكتئاب الشخص، زادت معه درجة ميله إلى تبخيس
قدر نفسه. وهذا يدل، بحسب هورسويل، على أن التفوق المتوهم يمكن أن يكون درعاً
وقائياً يحمي التقدير الذاتي للشخص. ويضيف هورسويل “تعتقد أنك أفضل من أي إنسان آخر،
وهذا في الواقع جيد ومفيد لصحتك الذهنية والعقلية”. لكن درجة طغيان التفوق المتوهم
تختلف بحسب البيئة الثقافية وتتأثر بها. ويقول دانينج “مواطنو أميركا الشمالية يمكن وصفهم بملوك وملكات تضخيم الذات والتفوق المتوهم.
أما إنْ ذهبت إلى أماكن أخرى في العالم مثل اليابان أو كوريا أو الصين، فإنك تجد
أن هذه الظاهرة قد تبخرت برمتها”.
ويعلق
دانينج على هذا التباين بالقول إنه قد يكون راجعاً لاختلاف الثقافات الشرقية عن نظيراتها
الغربية. فالشرقيون يثمنون عالياً
التطوير الذاتي، بينما يذهب التثمين العالي لدى
الغربيين في اتجاه التقدير الذاتي.
ويقول
دانينج إنه بالرغم من استحالة الحصول على نظرة واضحة تماماً عن الذات، فإن الناس يمكنهم
جعل تصورهم الذاتي أقرب إلى الواقع وحقيقة ما يراهم الناس عليه. ويضيف “تجد أحدهم
يرى أنه ينبغي على الناس أن ينظروا إلى الآخرين الذين تُلهم حياتهم التقدير، وأن
يكتشفوا الأشياء الصائبة التي يقومون بها، وأن يحاولوا منافسة أنفسهم وإنجازاتهم
والإتيان بأحسن منها مستقبلاً.
ويرى
دانينج أنه نظراً لكون الناس يتصفون عموماً بالدقة عندما يتعلق الأمر بتقييم غيرهم
(وليس أنفسهم)، فإنه يجب عليهم أن يكونوا ذوي جرأة ومبادرة عاليتين للحصول على نقد
بناء من الآخرين، وأن يكونوا قادرين على تقبل ذلك بصدر في غاية الرحابة. فالطريق
إلى استبصار الذات واستغوار مكنوناتها وتمثلاتها يمر دائماً عبر الناس الآخرين.
منقول بالكامل من موقع صحيفة الاتحاد للفائدة
http://www.alittihad.ae/details.php?id=19072&y=2013&article=full
تاريخ النشر:
الأحد 24 فبراير 2013